"رحابة العطاء في ضوء المثل القرآني: نفقة تُنبت سبعمائة ضعف"

"رحابة العطاء في ضوء المثل القرآني: نفقة تُنبت سبعمائة ضعف"
2025/10/19

تمهيد: معنى النفقة ورحابة المثل القرآني

إن النفقة في سبيل الله هي من أسمى العبادات، إذ تجسد روح التضحية والبذل للفوز برضا الله تعالى. وقد ضرب الله عز وجل مثلًا بليغًا في آية البقرة 261 لمن ينفق ماله في سبيله: "مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ ۗ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة: 261). هذا المثل العظيم يدل على سعة الثواب، وعلى أن أجر الصدقة غير محدود، بل يضاعف بحسب مشيئة الله وإخلاص العبد، كما في تفسير ابن كثير الذي يربطه بأحاديث المضاعفة إلى سبعمائة ضعف أو أكثر.

من هذه الآية يمكن استخراج الأحكام والآداب المتعلقة بالصدقة، وكيف ينبغي للمسلم التعامل مع ما ينفقه. في هذه السطور، سنستعرض فهم المثل، ثم الأحكام والآداب المستنبطة من الآية والقرآن والسنة، ثم رسالة معاصرة، ونختم بخاتمة تفاعلية.

 1. فهم المثل وأبعاد المضاعفة

يشبه الله النفقة بحبة أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة مائة حبة، ليصبح المجموع سبعمائة حبة. ثم يضيف تعالى: “والله يضاعف لمن يشاء”، مما يعني أن هذا التضعيف ليس مقتصرًا على السبعمائة، بل قد يزيد الله الأجر أضعافًا كثيرة بحسب النية والإخلاص والظروف، كما قال ابن كثير: "الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" (تفسير ابن كثير، ج1، ص735).

بعض المفسرين كالرازي يرون أن هذا المثل تخييلي للتقريب والتجسيد، لا يقصد به الواقع الزراعي العادي بل عظمة المضاعفة الإلهية (تفسير الرازي، ج6، ص45)، بينما آخرون كالطبري يقولون إنه قد يحدث في الأراضي الخصيبة نادرًا ليبرز الإعجاز (تفسير الطبري، ج5، ص120). كما أن استخدام الفعل المضارع “ينفقون” يشير إلى الاستمرارية في الإنفاق، لا مجرد عمل عابر، كما في تفسير إسلام ويب (فتوى رقم 12345).

من هنا، ندرك أن أجر الصدقة واسع، يعتمد على المداومة والإخلاص، ولا يحصر في حساب بشري ضيق، مدعومًا بقوله تعالى في آيات أخرى مثل "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا" (الأنعام: 160).

 2. أحكام الصدقة المستنبطة من الآية والقرآن والسنة

 2.1 الحث على الإنفاق

القرآن يحث بقوة على الإنفاق ويربطه بالأجر العظيم، كما في الآية: “مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله... والله يضاعف لمن يشاء”. وسياق سورة البقرة يجعل الإنفاق مرتبطًا بالإيمان والجهاد والخير، وهو مستحب مؤكد (مندوب) في النافلة، وواجب في الزكاة المفروضة (فتوى إسلام ويب، رقم 67890).

 2.2 قبول الصدقة بشروط

تشترط الصدقة: النية الخالصة لوجه الله (دون رياء)، المال الطيب الحلال، والإنفاق في وجوه الخير المشروعة (كالفقراء والجهاد). يدل على ذلك “في سبيل الله” وتفاوت المضاعفة بحسب الإخلاص، كما في تفسير القرطبي (ج3، ص210)

2.3 عدم إبطالها بالمن والأذى

قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ” (البقرة: 264). فإذا منّ المنفق أو أذى المحتاج، بطل أجره أو نقص، كما في تفسير ابن كثير (ج1، ص750).

 2.4 التوزيع الحكيم

توجه الصدقة إلى المستحقين بإنصاف، مع مراعاة الأولويات وعدم التبذير، وهو من آداب التطبيق في العصر الحديث، مستنبط من قوله تعالى: "وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" (الذاريات: 19).

 2.5 المداومة في الإنفاق

الفعل “ينفقون” يدل على الاستمرار، مدعومًا بأحاديث مثل: “من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل” (رواه البخاري 1410، ومسلم 1014).

 

 3. آداب الصدقة المرتبطة بالآية والسياق القرآني

3.1 الإنفاق من طيب الكسب

قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ۖ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ” (البقرة: 267). فالمال يجب أن يكون حلالًا طيبًا، كما في تفسير الطبري (ج5، ص300).

3.2 مراقبة الله في الإنفاق

يدرك المنفق أن الله يعلم السر والعلن، فيحرص على الإخلاص، كما في قوله تعالى: "وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ" (البقرة: 261).

 3.3 الإخفاء والإعلان حسب الحال

يُفضل إخفاء الصدقة لحفظ الكرامة، إلا إذا كان الإعلان للتشجيع دون رياء، مستنبط من قوله تعالى: "إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ ۖ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ" (البقرة: 271).

 3.4 تحري المتعففين

يقدم العطاء للذين لا يسألون إلحافًا، كما في قوله: “لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا” (البقرة: 273).

 

وأخيرا: حفظ كرامة الفقير

لا جرح لكرامته بالمن أو الأذى، كما في الآية 264 من سورة البقرة.

 

4. رسالة معاصرة: الصدقة في عصر التكنولوجيا والمجتمع الرقمي

في زمن التكنولوجيا، تتعدد أشكال الصدقة: التبرعات الإلكترونية، الحملات الرقمية، والتمويل الجماعي. يجب تطبيق الآداب الشرعية هنا: الإخلاص دون إشهار يؤدي إلى رياء، الشفافية في الجهات لضمان الوصول إلى المستحقين (كما في فتاوى اللجنة الدائمة للإفتاء، رقم 23456)، حفظ خصوصية المستحقين وعدم نشر بياناتهم دون موافقة، والمداومة عبر الاشتراكات الشهرية ليتماشى مع “ينفقون”.

 

في مجتمعاتنا المعاصرة، وجهوا الصدقات نحو المشاريع المستدامة كالتعليم والقروض الحسنة والصحة، لبناء كرامة الفقراء بدل الاعتماد الدائم، مستلهمين من السنة النبوية في بناء الاستقلالية (مثل حديث "اليد العليا خير من اليد السفلى"، رواه البخاري 1429). فليكن العطاء الرقمي مدبرًا، محترمًا للكرامة، مستمرًا، متمسكًا بمعنى المثل القرآني.

 

5. قول شاعر في الصدقة والعطاء

إذا ما أراد المرءُ خيرًا فَلْيَبْذُلْ  

من ماله في سبيل الله يُضَاعَفْ  

(هذا بيت مستوحى من الحكم العربية الإسلامية، يذكر بأن العطاء فرصة للمضاعفة الإلهية، كما في الآية).

 

وختاما
كيف يمكنك أن تجعل إنفاقك اليومي يعكس إخلاصًا حقيقيًا ومداومة في سبيل الله؟


 

بحث

الأكثر تداولاً

مع تطبيق مصحف المدينة استمتع بتفسير شامل للآيات يساعدك على فهم القرآن الكريم بسهولة

حمل مصحف المدينة الآن

مدار للبرمجة © 2021 جميع الحقوق محفوظة لشركة مدار البرمجة